البُعد الثقافي: بناء منظمة تتمحور حول العمليات
في العصر الحالي الذي يتسارع فيه التغيير وتتطور فيه التقنيات بسرعة مذهلة، لم يعد كافيًا أن تعتمد المنظمات على الهياكل التقليدية أو تستند إلى النجاح الماضي فقط. بل أصبح من الضروري إعادة النظر في جوهر العمل المؤسسي: ثقافته، وهيكل عملياته، واستعداده للتكيف مع التغيير. في هذا السياق، يُعتبر البُعد الثقافي عاملاً أساسيًا في قدرة أي منظمة على تبني نموذج تشغيلي يتمحور حول العمليات، يركز على الكفاءة، والمرونة، وتحقيق القيمة.
ثقافة المنظمة ليست مجرد شعارات على الجدران أو رؤى تُعرض في التقارير السنوية، بل هي الإطار غير المرئي الذي يوجه سلوك الأفراد واتخاذ القرار والتعامل مع التحديات اليومية. عندما تتبنى المنظمة ثقافة تُمكِّن من هندسة العمليات، تصبح أكثر قدرة على التغيير والتحسين المستمر، وهو ما يلعب دورًا حاسمًا في تحقيق التميز المؤسسي، خاصة في بيئة ديناميكية مثل بيئة الأعمال في المملكة العربية السعودية.
أهمية هندسة العمليات ضمن الثقافة المؤسسية
تُعد هندسة العمليات عنصرًا جوهريًا في بناء منظمة ترتكز على العمليات، حيث تُعنى هذه الهندسة بإعادة تصميم العمليات الأساسية بشكل جذري لتحقيق تحسينات كبيرة في الأداء. يشمل ذلك تقليل التكاليف، وتحسين الجودة، وتسريع دورة العمل، وزيادة رضا العملاء. لكن لتحقيق هذه الفوائد، لا بد من أن تكون هناك ثقافة تنظيمية تدعم الابتكار، وتشجع على التغيير، وتُقدّر التحسين المستمر.
في المملكة، ومع تسارع التحول الرقمي ضمن رؤية 2030، أصبحت المؤسسات - سواء الحكومية أو الخاصة - مطالبة بإعادة التفكير في الطريقة التي تُدار بها أعمالها. لذلك، يتطلب تبني هندسة العمليات تغييرًا ثقافيًا عميقًا يبدأ من القيادة ويمتد ليشمل جميع الموظفين. بدون هذا التغيير الثقافي، ستبقى مبادرات إعادة هندسة العمليات محاولات معزولة لا تحقق النتائج المرجوة.
الثقافة المؤسسية كمُحرّك للتحول نحو العمليات
بناء منظمة تتمحور حول العمليات يبدأ بفهم عميق لثقافة المنظمة الحالية. من الأسئلة الجوهرية التي يجب طرحها:
- هل تتيح الثقافة الحالية حرية التعبير عن الأفكار الجديدة؟
- هل تُشجّع الموظفين على الابتكار وتحمّل المسؤولية؟
- هل تركز على النتائج أم على الإجراءات فقط؟
ثقافة العمليات تختلف عن الثقافة التقليدية التي تُركّز على الأفراد أو الأقسام. في ثقافة العمليات، يكون التركيز على "كيف يتم العمل؟"، وكيف يمكن تحسينه؟ يتم تقييم الأداء بناءً على مساهمته في العملية ككل، وليس بناءً على الدور الفردي فقط.
المؤسسات في السعودية التي تسعى للريادة تحتاج إلى تبني هذه الثقافة، حيث تكون العمليات هي المحور الأساسي للتفكير والتنفيذ. سواء في القطاعات الخدمية مثل التعليم والصحة، أو القطاعات الإنتاجية والصناعية، فإن ثقافة التركيز على العمليات تضمن استدامة الأداء وتمكّن من مواجهة التحديات بمرونة عالية.
عناصر بناء ثقافة مؤسسية ترتكز على العمليات
لتحقيق التحوّل الناجح نحو منظمة تتمحور حول العمليات، لا بد من توفر عدة عناصر ثقافية، من أبرزها:
1. القيادة الداعمة
القيادة الفاعلة هي أول عناصر التغيير. لا يكفي أن تُصدر الإدارة العليا قرارات استراتيجية، بل يجب أن تكون قدوة في تطبيق ثقافة العمليات. على سبيل المثال، من خلال اعتماد مقاييس أداء قائمة على العمليات، ودعم فرق العمل متعددة التخصصات، وتوفير الموارد اللازمة لتطبيق مبادئ هندسة العمليات.
2. الشفافية والمساءلة
الثقافة التي تدعم الوضوح في الأهداف والمسؤوليات تُسهم في تحسين العمليات. الموظف الذي يعلم تأثير عمله على سلسلة العمليات الكاملة يكون أكثر التزامًا بتحقيق الجودة. كما أن المساءلة تضمن عدم تحميل جهة واحدة الخطأ بل يتم تحليل جذور المشكلة ضمن النظام ككل.
3. التمكين والتدريب
منظومة العمليات تحتاج إلى موظفين مؤهلين قادرين على فهم السياق العام وتقديم اقتراحات تحسين. لذلك، يجب أن توفر المنظمة فرص تدريب على أدوات تحليل العمليات، مثل Lean وSix Sigma، إضافة إلى المهارات السلوكية مثل التفكير النقدي والعمل الجماعي.
4. تحفيز الابتكار والتحسين المستمر
الثقافة المؤسسية التي تحتفي بالتجربة وتتعلم من الفشل، هي أكثر قدرة على تحسين عملياتها. لا ينبغي أن يُنظر إلى تغيير العمليات على أنه تهديد، بل فرصة للتطور. ويجب أن يكافأ الموظفون الذين يقترحون تحسينات ناجحة، مما يعزز الالتزام بثقافة التغيير.
التحديات الثقافية في بيئة العمل السعودية
رغم الإنجازات الكبيرة التي تحققها المملكة في مختلف المجالات، إلا أن هناك بعض التحديات الثقافية التي قد تُعيق بناء منظمة تتمحور حول العمليات، من أبرزها:
- المركزية في اتخاذ القرار
في بعض المؤسسات، تتركز القرارات في قمة الهرم الإداري، مما يحد من سرعة الاستجابة للتغيرات. بينما ثقافة العمليات تتطلب تمكين الموظفين في الخطوط الأمامية لاتخاذ قرارات بناءً على البيانات والمعطيات اللحظية.
- مقاومة التغيير
يُعتبر الخوف من المجهول أو من فقدان الوظيفة أحد أبرز مسببات مقاومة التغيير. لذلك من المهم إدارة التغيير بفعالية من خلال إشراك الموظفين منذ بداية الرحلة وتوضيح مكاسب التغيير على المستوى الشخصي والمؤسسي.
- الفصل بين الأقسام والوظائف
غالبًا ما تعمل الأقسام بمعزل عن بعضها، وهو ما يُعرف بـ"ثقافة الصوامع"، مما يصعّب تحسين العمليات التي تمر عبر أكثر من إدارة. يجب كسر هذه الحواجز من خلال فرق عمل متداخلة تُركّز على تحسين العمليات من منظور شامل.
دور التكنولوجيا والتحول الرقمي
التقنية هي مُمكّن رئيسي لثقافة العمليات، لكنها ليست بديلاً عن الثقافة المؤسسية. يمكن للأنظمة الرقمية أن تُبسّط العمليات وتُظهر مناطق الهدر وتُوفر بيانات آنية، لكنها تحتاج إلى بيئة بشرية قادرة على استخدام هذه الأدوات بفعالية.
في المملكة، يُعد التحول الرقمي أحد الأعمدة الأساسية لرؤية 2030، وهو ما يتطلب مواءمة ثقافية تُمكّن من الاستفادة الكاملة من التكنولوجيا. يجب أن تُربط المشاريع التقنية مثل الأتمتة أو الذكاء الاصطناعي بإستراتيجيات تحسين العمليات وليس تنفيذها بمعزل عن السياق المؤسسي.
تجارب سعودية ملهمة
عدة جهات سعودية بدأت بالفعل في تبني ثقافة ترتكز على العمليات، نذكر منها:
- وزارة العدل: من خلال مشروع "عدالة"، حيث أعادت الوزارة تصميم عدد من العمليات القضائية بهدف تسريع الخدمة وتقليل عدد الزيارات للمحاكم.
- مؤسسة التأمينات الاجتماعية: اعتمدت على إعادة هيكلة عمليات التسجيل والصرف لتصبح أكثر مرونة وسهولة للمستفيد.
- شركة أرامكو: منذ تأسيسها وهي تُعد نموذجًا عالميًا في تبني ثقافة ترتكز على تحسين العمليات والاعتماد على البيانات في اتخاذ القرار.
هذه الأمثلة توضح أن تبني هندسة العمليات لا يقتصر على القطاعات الصناعية، بل يمكن تطبيقه في كل مؤسسة تسعى للتميز والتحسين المستمر.
خارطة طريق لبناء ثقافة العمليات في السعودية
لتسهيل الانتقال نحو ثقافة تتمحور حول العمليات، يمكن اتباع الخطوات التالية:
- تقييم الثقافة الحالية: باستخدام أدوات مثل الاستبيانات أو المقابلات أو مجموعات التركيز.
- تصميم رؤية ثقافية جديدة: تُركّز على القيم والسلوكيات الداعمة للعمل الجماعي والتحسين المستمر.
- تدريب القادة والموظفين: على أدوات تحليل وتحسين العمليات، وعلى التفكير النظامي.
- دمج القيم الثقافية في السياسات: مثل تقييم الأداء، وبرامج الحوافز، ومؤشرات الأداء الرئيسية.
- الاحتفال بالنجاحات الصغيرة: لتحفيز الموظفين وتعزيز الالتزام بالثقافة الجديدة.
- الاستفادة من المبادرات الوطنية: مثل "التميّز المؤسسي" و"التحول الرقمي الحكومي"، لدعم جهود التحول الثقافي.
خاتمة
الثقافة ليست شيئًا يمكن تغييره بقرار، لكنها تتغير مع الوقت عبر التفاعل اليومي والسياسات والتحفيز والقيادة. بناء منظمة تتمحور حول العمليات يتطلب تغييرًا ثقافيًا عميقًا يتغلغل في كل زاوية من زوايا المؤسسة.
ومع وجود دعم حكومي ورؤية طموحة مثل رؤية 2030، فإن المؤسسات السعودية أمام فرصة ذهبية لتبني ثقافة جديدة تُعزز الكفاءة، وتدعم الابتكار، وتُركّز على تحقيق القيمة للمستفيدين. من خلال تبني هندسة العمليات كمنهج، وغرس ثقافة تُقدّر العمل الجماعي والتحسين المستمر، يمكن للمملكة أن تقود نموذجًا عالميًا في التميز المؤسسي.